سورة الأحزاب - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{إِن تُبْدُواْ شَيْئاً} ممَّا لا خيرَ فيه كنكاحهنَّ على ألسنتِكم {أَوْ تُخْفُوهْ} في صدورِكم {فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً} فيجازيكم بما صدرَ عنكُم من المعاصِي الباديةِ والخافيةِ لا محالَة، وفي هذا التعميمِ مع البُرهانِ على المقصودِ مزيدُ تهويلٍ وتشديدٍ ومبالغةٍ في الوعيدِ.
{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءابَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء أخواتهن} استئنافٌ لبيانِ مَن لا يجبُ الاحتجابُ عنهم رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ آيةُ الحجابِ قالَ الآباءُ والأبناءُ والأقاربُ يا رسولَ الله أوَ نكلمهن أيضاً من وراءِ الحجابِ فنزلتْ وإنَّما لم يُذكر العمُّ والخالُ لأنَّهما بمنزلةِ الوالدينِ ولذلك سُمِّي العمُّ أباً في قولِه تعالى: {وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} أو لأنَّه اكتُفي عن ذكرِهما بذكرِ أبناءِ الإخوةِ وأبناءِ الأخواتِ، فإنَّ مناطَ عدمِ لزومِ الاحتجابِ بينهنَّ وبينَ الفريقينِ عينُ ما بينهنَّ وبينَ العمِّ والخالِ من العمومةِ والخؤولةِ لما أنهنَّ عمَّاتٌ لأبناءِ الإخوةِ وخالاتٌ لأبناءِ الأخوات، وقيل: لأنَّه كره تركَ الاحتجابِ منُهما مخافةَ أنْ يصِفاهنَّ لأبنائِهما {وَلاَ نِسَائِهِنَّ} أي نساءِ المُؤمناتِ {وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} من العبيدِ والإماءِ، وقيلَ: من الإماءِ خاصَّة وقد مرَّ في سورةِ النُّورِ {واتقين الله} في كلِّ ما تأُتنّ وما تذرْنَ لا سيَّما فيما أُمرتُنَّ بهِ ونُهيتنَّ عنْهُ {إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء شَهِيداً} لا تَخفى عليهِ خافيةٌ ولا تتفاوتُ في علمهِ الأحوالُ. {إِنَّ الله وملائكته} وقرئ: {وملائكتُه} بالرَّفعِ عطفاً على محلِّ إنَّ واسمِها عند الكوفيينَ وحملاً على حذفِ الخبرِ ثقةً بدلالةِ ما بعدَه عليهِ على رَأي البصريينَ. {يُصَلُّونَ عَلَى النبى} قيل: الصَّلاةُ من الله تعالى الرَّحمةُ ومن الملائكةِ الاستغفارُ. وقالَ ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنُهمَا: أرادَ أنَّ الله يرحمُه والملائكةَ يدعُون له. وعنْهُ أيضاً يصلُّون يبرِّكُون. وقالَ أبوُ العاليةِ: صلاةُ الله تعالى عليهِ ثناؤُه عليهِ عندَ الملائكةِ وصلاتُهم دعاؤُهم له فينبغي أنْ يُرادَ بها في يصلُّون معنى مجازيٌّ عامٌّ يكونُ كلُّ واحدٍ من المَعَاني المذكورةِ فَرْداً حقيقياً له أي يعتنون بما فيهِ خيرُه وصلاحُ أمرهِ ويهتمُّون بإظهارِ شرفِه وتعظيمِ شأنِه، وذلكَ منَ الله سبحانَهُ بالرَّحمةِ ومن الملائكةِ بالدُّعاءِ والاستغفارِ.
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} اعتنُوا أنتُم أيضاً بذلكَ فإنَّكُم أولى بهِ. {وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} قائلينَ اللهمُّ صلِّ على محمدٍ وسلِّم أو نحوَ ذلكَ، وقيلَ: المرادُ بالتسليمِ انقيادُ أمرهِ. والآيةُ دليلٌ على وجوبِ الصَّلاةِ والسَّلامِ عليهِ مُطلقاً من غيرِ تعرضٍ لوجوبِ التَّكرارِ وعدمِه، وقيل: يجبُ ذلكَ كلَّما جَرى ذكرُه لقولِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «رغمَ أنفُ رجلٍ ذُكرتُ عندَهُ فلمْ يصلِّ عليَّ» وقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «مَن ذُكرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ فدخلَ النَّارَ فأبعدَهُ الله».
ويُروى أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: «وكَّل الله تعالى بي ملكينِ فلا أُذكر عندَ مسلمٍ فيصلِّي عليَّ إلاَّ قالَ ذانِك الملكانِ: غفرَ الله لكَ، وقالَ الله تعالى وملائكتُه جواباً لذينكَ الملكينِ: آمينَ، ولا أُذكر عندَ مسلمٍ فلا يصلِّي عليَّ إلاَّ قال ذلكَ الملكانِ: لا غفرَ الله لكَ، وقالَ الله تعالى وملائكتُه جواباً لذينكَ الملكينِ آمينَ». ومنُهم مَن قالَ يجبُ في كلِّ مجلسٍ مرَّةً وإنْ تكررَ ذكُره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كما قِيل في آيةٍ السَّجدةِ وتشميتِ العاطسِ وكذلك في كلِّ دعاءٍ في أوَّلهِ وآخرِه. ومنهُم مَن قال بالوجوبِ في العُمر مرَّةً وكذا قالَ في إظهارِ الشَّهادتينِ، والذي يقتضيهِ الاحتياطُ ويتسدعيهِ معرفةُ عُلوِّ شأنِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يُصلَّى عليهِ كلَّما جَرَى ذكُره الرَّفيعُ. وأمَّا الصَّلاةُ عليهِ في الصَّلاةُ بأن يُقالَ: «اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما صلَّيتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ» فليستْ بشرطٍ في جوازِ الصَّلاةِ عندَنا. وعن إبراهيمَ النَّخعيَّ رحمَهُ الله أنَّ الصَّحابةَ كانُوا يكتفُون عن ذلكَ بما في التَّشهدِ وهو السَّلامُ عليكَ أيُّها النبيُّ. وأمَّا الشَّافعيُّ رحَمهُ الله فقد جعلَها شرطاً، وأمَّا الصَّلاةُ على غيرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فتجوزُ تبعاً وتُكره استقلالاً لأنَّه في العُرفِ شعارُ ذكرِ الرُّسلِ ولذلكَ كُره أنْ يُقالَ محمدٌ عزَّ وجلَّ مع كونِه عزيزاً جليلاً.


{إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} أُريد بالإيذاء إمَّا فعلُ ما يكرهانِه من الكُفرِ والمعَاصي مجازاً لاستحالةِ حقيقةِ التَّأذِي في حقِّه تعالى، وقيلَ: في إيذائِه تعالى هو قولُه اليَّهودِ والنَّصارَى والمُشركين يدُ الله مغلولةٌ وثالثُ ثَلاثَة والمسيحُ ابنُ الله والملائكةُ بناتُ الله والأصنامُ شُركاؤه، تعالَى الله عن ذلكَ عُلواً كبيراً. وقيلَ قولُ الذينَ يُلحدون في آياتِه وفي إيذاءِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو قولُهم شاعرٌ ساحرٌ كاهنٌ مجنونٌ وقيل هو كسرُ رَباعيتِه وشجُّ وجههِ الكريمِ يومَ أُحد وقيلَ: طعنُهم في نكاحِ صفيَّةَ، والحقُّ هو العمومُ فيهما وأمَّا إيذاؤُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ خاصَّة بطريقِ الحقيقةِ وذكرُ الله عزَّ وجلَّ لتعظيمِه والإيذانِ بجلالةِ مقدارهِ عندَه تعالى وأنَّ إيذاءه عليه الصَّلاة والسَّلامُ إيذاءٌ له سبحانَه {لَّعَنَهُمُ الله} طردَهم وأبعدَهُم من رحمتِه {فِى الدنيا والاخرة} بحيثُ لا يكادُون ينالُون فيهما شَيئاً منها {وَأَعَدَّ لَهُمْ} معَ ذلكَ {عَذَاباً مُّهِيناً} يصيبهم في الآخرةِ خاصَّة. {والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات} يفعلونَ بهم ما يتأذون به من قولٍ أو فعلٍ. وتقييدُه بقولِه تعالى: {بِغَيْرِ مَا اكتسبوا} أي بغيرِ جنايةٍ يستحقُّون بها الأذيةَ بعد إطلاقِه فيما قبلَه للإيذانِ بأنَّ أذى الله ورسولِه لا يكونُ إلا غيرَ حقَ وأما أَذَى هؤلاءِ فَمنُه ومنه {فَقَدِ احتملوا بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} أي ظَاهراً بيّناً قيل: إنَّها نزلتْ في مُنافقينَ كانُوا يؤُذون علياً رضيَ الله عنْهُ ويُسمعونَهُ ما لا خيرَ فيه، وقيلَ: في أهلِ الإفكِ، وقال الضحَّاكُ والكلبيُّ: في زُناةٍ يتَّبعونَ النِّساءَ إذَا برزنَ بالليَّلِ لقضاءِ حوائجهنَّ. وكانُوا لا يتعرَّضُون إلاَّ للإماءِ ولكنْ رُبَّما كانَ يقعُ منهم التَّعرُّضُ للحرائرِ أيضاً جَهْلاً أو تجاهُلاً لاتحادِ الكلِّ في الزيِّ واللِّباسِ. والظاهرُ عمومُه لكلِّ ما ذُكر ولمَا سيأتِي من أراجيفِ المُرجفينَ.


{ياأيها النبى} بعدَ ما بيَّن سوءَ حالِ المُؤذين زَجْراً لهم عن الإيذاءِ أمرَ النبيَّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنْ يأمرَ بعضَ المتأذِّين منهُم بما يدفعُ إيذاءَهم في الجُملةِ من السترِ والتميزِ عن مواقعِ الإيذاءِ فقيلَ: {قُل لأزواجك وبناتك وَنِسَاء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} الجلباب ثوبٌ أوسعُ من الخمارِ ودُونَ الرِّداء تلويهِ المرأةُ على رأسِها وتُبقي منه ما تُرسله على صدرِها وقيل: هي الملْحفةُ وكل ما يُتسترُ به، أي يغطينَّ بها وجوههنَّ وأبدانهنَّ إذَا برزن لداعيةٍ من الدَّواعِي، ومِنْ للتبعيضِ لما مرَّ منْ أنَّ المعهودَ التَّلفعُ ببعضِها وإرخاءُ بعضِها. وعن السُّدِّيِّ: تُغطيِّ إحدَى عينيها وجبهتَها والشقَّ الآخرَ إلا العينَ {ذلك} أي ما ذُكر من التَّغطِّي {أدنى} أقربُ {أَن يُعْرَفْنَ} ويُميزنَّ عن الإماءِ والقيناتِ اللاتِي هنَّ مواقعُ تعرُّضِهم وإيذائِهم {فَلاَ يُؤْذَيْنَ} من جهةِ أهلِ الرِّبيةِ بالتعرضِ لهنَّ {وَكَانَ الله غَفُوراً} لما سلفَ منهنَّ منَ التَّفريطِ {رَّحِيماً} بعبادِه حيثُ يُراعي من مصالحهم أمثالَ هاتيكَ الجُزئياتِ.
{لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون} عمَّا هُم عليهِ من النِّفاقِ وأحكامِه الموجبةِ للإيذاءِ {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} عمَّا هُم عليهِ من التزلزلِ وما يستتبعُه ممَّا لا خيرَ فيهِ {والمرجفون فِى المدينة} من الفريقينِ عمَّا هُم عليهِ من نشرِ أخبارِ السُّوءِ عن سَرَايا المُسلمينَ وغيرِ ذلكَ من الأراجيفِ الملَّفقةِ المُستتبعةِ للأذَّيةِ. وأصلُ الإرجافِ التَّحريكُ من الرَّجفةِ التي هي الزَّلزلةُ وُصفت به الأخبارُ الكاذبةُ لكونِها متزلزلةً غيرَ ثابتةٍ {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} لنأمرنَّك بقتالِهم وإجلائِهم أو بما يضطرهم إلى الجلاءِ ولنحرضنَّك على ذلكَ {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ} عطفٌ على جوابِ القسمِ وثمَّ للدَّلالةِ على أنَّ الجلأَ ومفارقةَ جوارِ الرَّسولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أعظمُ ما يُصيبهم {فِيهَا} أي في المدينةِ {إِلاَّ قَلِيلاً} زَمَاناً أو جواراً قليلاً ريثما يتبينُ حالُهم من الانتهاءِ وعدمِه {مَّلْعُونِينَ} نُصب على الشَّتمِ أو الحالِ على أنَّ الاستثناءَ واردٌ عليهِ أيضاً على رَأْي مَن يجوزُه كما مرَّ في قولِه تعالى غيرَ ناظرينَ إناه، ولا سبيلَ إلى انتصابِه عن قولِه تعالى: {أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً} لأنَّ ما بعد كلمةِ الشَّرطِ لا يعملُ فيما قبلَها.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10